مهرجان الدنيا شمال!
بلال فضل
على مدى عامين كاملين، ظل كثير من حاملى صفة «القوى المدنية» يذلون أنفاس قيادات وأنصار جماعة الإخوان باتهامهم بأنهم باعوا دماء المتظاهرين فى محمد محمود ومجلس الوزراء، وصمتوا على تعرية ست البنات من أجل مكاسب سياسية رخيصة، وقد كان هؤلاء محقين فيما قالوه عن الإخوان الذين حملوا فوق ظهورهم أسفارا ممتلئة بتحذيرات مثل «من أعان ظالما سلطه الله عليه» دون أن ينتفعوا بما فيها من عظات وعبر.
طيب، ها هم الإخوان قد رحلوا عن الحكم، وها هم يجنون ثمار عونهم للظلمة، فلماذا أسكت الله حسكم يا من ظللتم تتباكون على دماء الشهداء وعيون الجرحى وأعراض الفتيات، ولماذا لم تعودوا تشهرون فى وجوه الجميع صورة تعرية الجنود لست البنات، ما الذى جد فى الأمور؟، هل أعلن لكم الفريق عبدالفتاح السيسى فى اجتماع مغلق أنه كان رافضا لما حدث وأنه سيحيل المسئولين عنه للمحاكمة؟، هل قالت لكم أسر علاء عبدالهادى ومحمد مصطفى وبهاء السنوسى وعشرات الشهداء أنها سامحت قاتليهم؟، وهل قالت لكم أسرة الشيخ الشهيد عماد عفت الذى تاجرتم به فى صراعكم ضد الإخوان أنها تنازلت عن حقها فى معرفة من قتله؟، إذا لم يكن ذلك قد حدث كحد أدنى، فأنتم إذن انتهازيون ومتاجرون بالدماء كالإخوان تماما، وأنتم مثلهم لا يشغلكم سوى مكاسبكم، ولذلك فأنتم إلى زوال مثلما زالوا، مهما بدا أن أقدامكم راسخة فى الأرض وأن منطق القوة يدعمكم.
أعلم أن كلاما مثل هذا لم يعد يجلب لقائليه إلا الاتهام بأنهم عناصر إثارية ترغب فى زعزعة الاستقرار والتحريض ضد الجيش والشرطة، برغم أنه إذا كان هناك حقا من يريد للبلد أن يستقر فهو وحده الذى يطالب بالعدالة الانتقالية التى تفتح كل ملفات القتل والفساد والقمع دون أن تستثنى أحدا من الحساب ودون أن تمنع أحدا من طلب الصفح والإصلاح، وإذا كان هناك من يخاف على الجيش المصرى فهو من ينصح قادته بألا يستكبروا فى الاعتراف بالخطأ والاعتذار ومحاسبة المخطئين، كما تفعل أقوى جيوش العالم، وإذا كان هناك من يرغب فى أمن البلاد فهو من يسعى لأن تكون هناك شرطة مهنية خالية من القتلة والفاسدين، وغدا ستجبر تداعيات الواقع أولئك الذين يرفضون إدراك هذه الحقائق على دفع ثمن إغلاق الجراح قبل تطهيرها، ولن تنفعهم محاولاتهم لتشويه وتخوين كل من يطالب بالعدالة والتطهير، ولن يحميهم شيوخ السلطان ولا مثقفو الموالسة ولا الكلاب العضاضة التى لم يستخدمها حاكم فى التاريخ إلا وكانت سببا فى وكسته وخيبة أحلامه.
لقد ظنت جماعة الإخوان ورئيسها سيئ الذكر محمد مرسى أن من الأنفع لها أن تدفن تقرير لجنة تقصى الحقائق وتؤجل فتح ملف العدالة الانتقالية، مفضلة أن تدير ظهرها للتعهدات التى أوصلتها إلى الحكم، وتسعى للتكويش على مكاسب السلطة، متخيلة بفكاكتها المثيرة للقرف أنها تستطيع أن توظف أجهزة الدولة الأمنية لقمع كل من يعترض على كذبها وإخلاف وعودها، وعندما اكتشفت تعليم خديعة الدولة العميقة على أقفية قياداتها، لم تسارع بإصلاح أخطائها، بل لجأت إلى أسلحة التحريض الطائفى والتصعيد الحنجورى التى زادت من غرزتها فى الوحل الذى لا تزال غارقة فيه حتى الآن، فلا هى كسبت شرف خوض معركة تحقيق العدالة، ولا هى أفلحت فى الحصول على مكاسب السلطة ومغانمها.
واليوم، يكرر كثير من حاملى صفة «القوى المدنية» نفس الخطيئة الإخوانية بحذافيرها، لدرجة أن بعض تصريحات قياداتهم تكاد تكون مقتطعة بالنص من بيانات حزب الحرية والعدالة التى تمجد الواقعية السياسية وتدعو لتجاوز التفاصيل والرضا بالمتاح وتفويت الفرصة على من يريدون إفساد العرس الديمقراطى، ومشكلة هؤلاء أنهم يتخيلون فرصتهم فى حصد المكاسب أفضل من فرصة الإخوان، لأن وجودهم لازم لإضفاء الصبغة المدنية على الجوهر العسكرى، لكنهم للأسف يكررون خطأ الإخوان بإحراق أنفسهم دون الحصول على أى ضمانات تؤكد تحقيق مطالب الثورة، أو تعلن خطوات السير فى طريق العدالة الانتقالية.
وها أنت ترى بنفسك المكاسب المزعومة التى ظنوا أنهم سيحصلون عليها بعد ثورة 30 يونيو تُسرق أمام أعينهم قبل الهنا بسنة، فمطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة تحول إلى وسيلة لتفسير أحلام الرئاسة القديمة، والدستور العصرى المتحضر الذى وعدوا به الشعب انتهى إلى دستور تلفيقى يقنن وجود أكثر من دولة داخل الدولة ويدعم المحاكمات العسكرية للمدنيين، وها هى شعارات مدنية الدولة وفصل الدين عن السياسة قد تهاوت بعد أن فرض حزب النور كلمته على الجميع وتم تغيير صياغة الدستور بعد إقرارها من أجل خاطر عيونه، لكى يصبح الدستور الجديد مؤيدا من الله طبقا لتعبير المفتى الخاص للمؤسسة العسكرية د. على جمعة، وها هى الحريات المطلقة التى وعدوا بها الشعب بعد رحيل الإخوان تتآكل يوما بعد يوم فى ظل مناخ الفاشية الذى ترعاه الأجهزة الأمنية بمصادرها السيادية وخبرائها الاستراتيجيين وشراشيحها الفضائيين.
لقد سبق لكثير من النخب السياسية والثقافية فى الماضى القريب أن وافقت على إهدار حقوق الإنسان وكرامته لكى لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، فأخرسنا كل الأصوات وخسرنا المعركة، واليوم تكرر النخب السياسية والثقافية خطيئتها بالمشاركة فى إهدار حقوق الإنسان واغتيال العدالة والإنسانية بزعم أن ذلك سيحقق حلم الدولة المدنية المتقدمة، كأنهم سينجحون دونا عن غيرهم فى تغيير سنن الله فى الكون التى قضت أن تنتصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، و«تنوكس» الدولة الظالمة ولو طبل لها كل شيوخ السلطان، وهلل لها كل مثقفى الموالسة.
لا بأس، دعهم فى غيهم، فغدا سيدركون الحكمة التى قالها الفنان محمود العمدة فى مهرجانه الشهير: «الدنيا غابة وفيها أسود.. آه لو عرفت اللى عرفته.. هنا واحد صدقته آمنته.. وأنا يا ما من خيرى اديتله.. ولا كان فى بالى يبان غدره.. ما هى الحقيقة لازم تتقال.. إن الدنيا كلها شمال.. صاحبك يبيعك علشان يوصل.. ويبقى الجمل هو الجمال».