أمة في خطر
بقلم محمد البرغوثي( المصري اليوم) ٢/٧/٢٠٠٨
عرفت مصر تسريب أسئلة امتحانات الثانوية العامة لأول مرة عام ١٩٦٠، عندما قام أحد المسؤولين الكبار في مجلس قيادة الثورة - وكان زملكاوياً متعصباً - بمنح أسئلة الامتحان لأحد لاعبي كرة القدم بنادي الزمالك.
ولأن اللاعب كان نجماً جماهيرياً محاطاً بعشرات المعجبات، فقد منح هو أيضاً الأسئلة لعدد من معجباته، وظلت دائرة التسريب تتسع حتي ضمت شخصاً مجهولاً كان قريب الصلة من المخابرات الإسرائيلية التي تمكنت من الحصول علي الأسئلة بانتظام مثير للدهشة!
والذي حدث آنذاك أن القيادة السياسية فوجئت مثل الشعب المصري، بإذاعة إسرائيل الناطقة باللغة العربية، تقوم بتلاوة النص الكامل لأسئلة امتحان كل مادة من مواد الثانوية العامة قبل ساعات من دخول لجان الامتحان. وكانت ضربة موجعة،
وضعت القيادة السياسية في حرج بالغ، وسارع الرئيس جمال عبدالناصر بتشكيل لجنة تحقيق في هذه الفضيحة، اهتمت أولاً بالتوصل، وبأقصي سرعة، إلي قرار ينقذ سمعة التعليم المصري ويحمي هيبة الثانوية العامة من الانهيار،
ومن ناحية أخري تكفلت المخابرات العامة برصد طبيعة وكيفية هذا الاختراق الإسرائيلي للأمن التعليمي المصري. وخلال أيام قليلة من هذه الكارثة القومية أصدر «عبدالناصر» قراراً بإعادة امتحانات الثانوية العامة علي مستوي الجمهورية، الأمر الذي اعتبره خبراء التعليم واحداً من أهم القرارات السيادية التي حافظت علي هيبة التعليم في مصر،
ومنحت الخريجين المصريين احتراماً بالغاً في أسواق العمل العربية والأوروبية، وبفضل هذا القرار ظلت الشهادة المصرية تحظي بتقدير كامل في العالم كله، حتي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. بعد ٤٨ سنة من هذه الواقعة، انفجرت في مصر فضيحة تسريب امتحانات الثانوية العامة،
وعندما فاجأ طوفان التسريب الدكتور يسري الجمل وزير التربية والتعليم، وضع ٢٠ عاماً من تاريخ التعليم المصري تحت قدميه لينجو بمقعده الوزاري من الغرق.. وخرج من إحدي جلسات مجلس الشوري منتشياً، لأن أحد أعضاء لجنة التعليم بالمجلس برأه من تهمة وقوع التسريب في عهده فقط، عندما قال إن تسريب امتحانات الثانوية العامة في مصر يحدث بانتظام وعلانية منذ ٢٠ سنة. ولم يعترض الوزير علي ما قاله العضو،
واكتفي بالسكوت الذي نعرف أنه علامة الرضا! وبعد أيام من هذا السكوت، خرج الوزير ليبشرنا بأنه بعد درس وفحص توصل إلي أنه «لا توجد أي مبررات قانونية لإعادة امتحانات الثانوية العامة علي أي مستوي».. وفي اليوم التالي أتحفنا بقراره النهائي: «لا إعادة لامتحانات الثانوية العامة تحت أي ظرف»!
صحيح أن الإعادة - هذه الأيام - تنطوي علي عذابات رهيبة للأسر المصرية، وصحيح أن كل ولي أمر لديه ابن أو بنت في الثانوية العامة، لا يطيق مجرد التفكير في إخضاع نفسه أو أولاده لهذا الكابوس الفظيع. ورغم ذلك كله، فإن مستقبل الأمم المحترمة لا يمكن إخضاعه لهذه الأمور العاطفية، لأن نتيجة هذا التسيب ستكون أفظع ملايين المرات من كل كوابيس الامتحانات.
ويكفي لكل ولي أمر أن يعلم أن شهادة ابنه في ظل هذا الانهيار لم يعد لها أدني قيمة، ولن توفر له أدني احترام في أي مكان في العالم.. ولن تضمن له عملاً كريماً، وتفادياً لهذا المستقبل الكريه كان لابد من إقالة الوزير فوراً، وإعادة امتحانات الثانوية العامة، وتقديم المتسببين في التسريب إلي محاكمات عاجلة لإعادة الهيبة إلي هذه الأمة التي شبعت انتهاكاً!