هذا هو المقال الاخير للكاتب كرم جبر رئيس مجلس ادارة روزاليوسف ، يحتاج للقراءة والتقييم :
فضائيات حرق البلد
بقلم : كرم جبر
الإعلام كالنار، إما أن يأتى بالدفء، أو أن يشعل الحرائق، ويبدو أن هناك من يجهز لإشعال مزيد من الحرائق فى مصر، بإطلاق ألسنة لهب كثيفة هى الفضائيات المشبوهة، فانتظروها! كتبت فى هذا الموضوع مرات عديدة، ولن أيأس من الكتابة فيه، خصوصا أن الأيام المقبلة سوف تشهد مزيدا من برامج «التوك شو»، التى ستدخل سباقا مسعورا لإشعال النار فى القضايا الداخلية، وإذا كانت ثلاثة أو أربعة برامج قد ساهمت فى خلق أجواء الاحتقان التى نعيشها، فما بالنا بعشرة برامج جديدة، لن يكون لها هدف ولا مسعى سوى أن تنفث سمومها وأحقادها فى مشاكل وهموم الناس.
كتبت فى هذا الموضوع، ولن أيأس من الكتابة فيه، لأن الصمت - فى رأيى - جريمة، ولا أبنى مخاوفى على هواجس وتخوفات، ولكن انطلاقا من تحركات مريبة تحدث الآن فى الساحة الإعلامية المصرية.
1 -خطف اللاعبين انتقل للمذيعات والمذيعين
الملايين التى يتم دفعها لخطف اللاعبين، انتقلت الآن إلى المذيعات والمذيعين، لم يعد شيكابالا ولا أبوتريكة ولا عمرو زكى هم النجوم الذين تدفع فيهم الملايين، انتقلت اللعبة إلى «....» و«....» وأسماء أخرى كثيرة، دخلت عالم الشهرة والملايين فجأة وبدون أسباب! مقدم البرامج الشاطر الذى تتهافت عليه الفضائيات هو صاحب اللسان اللاذع الذى يهاجم ويسخر وينتقد ويحرض ويثير ولديه القدرة على شحن المتفرجين بالغضب والاحتقان.. وطبعا المعيار هو «هلهلة» القضايا الداخلية المصرية، وجعلها «فرجة» وتسلية للآخرين! لماذا تتهافت تلك الفضائيات على دفع مرتبات تصل إلى 150 ألفا و200 ألف جنيه فى الشهر لمذيعين ومذيعات حديثى الخبرة والعهد، ولماذا يتم إغراؤهم بالانتقال من فضائية إلى أخرى، ولماذا يدفعون عشرات الآلاف عن أعمال لا تساوى أكثر من جنيهات قليلة؟! مذيعة شابة فى إحدى القنوات اختطفتها فضائية أخرى رغم أن شهرتها واسمها من صنع الفضائية الأولى، ولكن فى سوق الاحتراف الولاء لمن يدفع أكثر، واضطرت نفس الفضائية أن ترفع أجر المذيع الآخر للضعف خوفا من إغراءات فضائية أخرى يملكها رجل أعمال.
2 الفضائيات وعمليات غسيل الأموال
الفضائيات لا تدر دخلا، بل هى محرقة للفلوس، وحاصرت الديون الفضائيات المصرية الخاصة بسبب ضخامة الإنفاق وضعف الإيرادات، ولذلك فالسؤال هو: من أين تجىء الملايين الكثيرة التى يتم حرقها الآن دون حساب فى الفضائيات الجديدة التى تتكالب على الظهور؟! الفضائية العادية التى تبث المنوعات لا تقل نفقاتها عن 50 مليون جنيه فى السنة، وفى أحسن الأحوال لا تتجاوز إيراداتها من الإعلانات 10 ملايين، فمن الذى يتحمل الفارق؟ إذن هى عملية خاسرة ولا تقدر عليها سوى الدول، أو الأفراد الذين تقف خلفهم دول. ليس شأننا أن نحاسبها على ما تنفقه وتخسره، ولكن لماذا جعلت مصر وقضاياها ساحة لألاعيبها المشبوهة؟! ولماذا تحرص على الإساءة لهذا البلد وتشويه سمعته وصورته وتلويث أبنائه، وإظهارهم إما كمشاغبين أو فوضويين، وهل هم يغسلون أموالهم فى مشاكل مصر وهموم شعبها؟!
3 تحالف الأموال العربية والهاربين المصريين
إيهاب طلعت الذى خرج هاربا من مصر بعد أن نهب أموال البنوك، عاد إليها من بوابة واسعة هى برنامج فضائى مدته ثلاث ساعات سوف يتم بثه فى إحدى القنوات الممولة من دولة عربية شقيقة هى «...» ويرأس مجلس إدارتها رجل أعمال «...» والسؤال هنا: من الذى لم «الشامى على المغربى»؟! الدولة العربية الشقيقة لها خمس فضائيات على النايل سات ليس فيها برنامج واحد عن أوضاعها الداخلية، فلماذا تريد برنامجا عن الأوضاع الداخلية فى مصر مدته ثلاث ساعات يوميا، وكيف يتم ملء مساحته.. وهل تحتمل الأوضاع ثلاث ساعات من النكد اليومى، تسبقها برامج أخرى على عدة فضائيات تتسابق من أجل إبراز النكد وتضخيمه وجعل الفرجة لمن يسوى ولمن لا يسوى كل ليلة؟!
4 إشعال الحرائق فى مصر فقط
كل الدول الشقيقة عندها فضائيات ووصل عددها على النايل سات إلى أكثر من 300 فضائية، ولكن مصر هى الدولة الوحيدة التى تتسابق كل الفضائيات على نشر مشاكلها وتضخيمها وإشعال الحرائق فيها، وكأن مصر هى الدولة الوحيدة التى يعانى شعبها من بعض المشاكل، أما بقية الدول فتعيش فى الجنة. أثرياء الخليج يريدون برامج فضائحية عن مصر.. «جزيرة» قطر تفعل نفس الشىء، رجال الأعمال دخلوا نفس اللعبة، والآن دول عربية أخرى أرادت أن «تلغوص» فى شئونا الداخلية عن طريق فضائيات التحريض الليلية.
طبعا لا تقولوا إن مصر هى الريادة والزعامة وهذا قدرها، هذا كلام أجوف وأحمق وفيه تضليل، لأنهم لا يرون فى الكبير إلا المشاكل والهموم، ولم يروا فى الكبير أبدا أى شىء إيجابى يستحق تسليط الأضواء، وتحت زعم «شماعة الكبير»، تحملت مصر الكثير من الإساءات، ولكن اللعبة هذه المرة خطيرة لأنها تستهدف المواطنين البسطاء، وتحرضهم على الغضب والفوضى. لا تجرؤ فضائية عربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر على بث برنامج واحد يمس قادتها أو أوضاعها الاجتماعية، أما نحن فكل شىء مستباح، ومن لا يستطيع أن يكون بطلا فى بلده يأتى ويمارس البطولة عندنا، بطولة مدفوعة الأجر، وتفتقد أدنى درجات المواثيق الإعلامية التى تقتضى احترام الدول والشعوب وعدم تأليبها.
5 كشف حساب السنوات السابقة
كل القضايا الداخلية التى أثارتها برامج «التوك شو» فى الفضائيات، اتخذت موقفا معاديا لوجهة نظر الحكومة والدولة فى هذه القضايا، ووقفت معها على النقيض، وتبنت وجهة نظر المعارضة واستضافت الضيوف المعارضين، حدث ذلك بنسبة ساحقة ودون استثناءات. كان الموقف معاديا لوجهة النظر الرسمية فى القضايا الشهيرة مثل تعديل الدستور وقانون مكافحة الإرهاب وأزمة القضاة وقضايا الجماعة المحظورة وأزمة مياه الشرب وإضراب موظفى الضرائب العقارية وانتخابات الصحفيين والمدونين والتحرش ومظاهرات وسط البلد، وغيرها من القضايا الجماهيرية المهمة، وقفت الفضائيات على النقيض تماما ولم تقدم سوى وجهة نظر المعارضة، ولم تقدم وجهة النظر الحكومية أو الرسمية إلا لذر الرماد فى العيون. من الطبيعى أن يعاد تشكيل الرأى العام وفقا للإعلام الذى يخاطبه ويؤثر فيه، ومنذ عام 2005 وعلى مدى ثلاث سنوات انقلب مزاج الرأى العام كثيرا، وأصبح انعكاسا لما تبثه الفضائيات، وغابت وجهة النظر المقابلة، وانقلب الوضع من الرأى والرأى الآخر إلى الرأى الآخر والرأى الآخر.
6 تحريض الناس على الفوضى والعصيان
لا توجد دولة واحدة فى العالم يلعب إعلامها دوراً فى تحريض الناس على الفوضى والعصيان إلا مصر، علانية وجهرا وعلى الملأ دون مواربة أو التفاف، وكأن الفوضى أو العصيان إحدى علامات التطور الديمقراطى فى مصر، ومرحلة يجب الوصول إليها. لم يتركوا صغيرة وكبيرة إلا تناولوها، وأصبحت كل طرق الإعلام العربى تؤدى إلى الشوارع المصرية فى النجوع والقرى، يلهثون خلف جراكن المياه ومشاكل عمال مخابز دمياط وسقوط عمود نور على مواطن فى بنها، يفردون المساحات والتعليقات والسخرية، وكأن مثل هذه الحوادث لا تقع إلا فى مصر ولا يعانى منها سوى المصريين، وياليت التغطية تقتصر على المتابعة الإخبارية، لكنها تغوص فى أعماق السياسة المصرية وتبحث عن الحكومة لتعلق فى رقبتها كل شىء!
وماذا بعد؟
1- إذا تُرك الأمر على ما هو عليه، سوف تصبح الفضائيات سوقا قانونها هو الفوضى باهظة الثمن، خصوصا إذا جاء التدخل متأخرا أو بعد فوات الأوان.
2- لابد من التزام القنوات الفضائية الممولة برؤوس أموال عربية برخص بثها، فماذا يجعل فضائية مثل «أوربت» أو «الساعة» تدس أنفسها فى قضايا داخلية، ولماذا لا تفعل ذلك مع دول أصحابها؟
3- لابد من الفصل بين «نايل سات» كقمر للبث، وبين جعل مصر ساحة خلفية لصراعات الدول ورجال الأعمال فى الفضائيات، ولماذا لا يفعلون هذا على «عرب سات»؟
4- ليس معقولا أن تكون الأرض والسماوات المصرية مفتوحة للكاميرات والتصوير دون تنظيم، فأصبحت كل شئوننا على الهواء مباشرة بالصوت والصورة.
5- زمان كان من يهاجم الدولة يصبح متهما، والآن من يدافع عنها هو الذى يضبط متهما بالعمالة والنفاق والانبطاح.. وكأنه متلبس بالسرقة فى أوتوبيس نقل عام.. فهل يعود التوازن المفقود قبل أن يتم السطو على البقية الباقية من الرأى العام؟!
***************************************************