يا مثبت العقل
كتب : أسامه هيكل
الاختلاف فى الرأى طبيعة بشرية.. وتكوين الرأى يحتاج معلومات كافية ودقيقة.. ومهمة الإعلام إتاحة المعلومات بدقة وأمانة، وللمشاهد الحرية فى تكوين رأيه الخاص.. ولكن فى مصر أصبح سباق بعض برامج «التوك شو» المسائية مرهقا لأعصاب المشاهدين، فرغم أن هذه البرامج تقدم خدمة إعلامية جيدة ومكثفة، فإن بعض القائمين عليها يتخلون أحيانا عن مهامهم الإعلامية ويحاولون فرض وجهات نظرهم الشخصية على المشاهدين.
وعلى مدى أسبوعين، تتابع هذه البرامج تأثيرات زيارة الدكتور أحمد زكى بدر، وزير التربية والتعليم، لمدرسة الخلفاء الراشدين بحلوان، وقراره الصارم بنقل مديرها وجميع المدرسين بها.. وكان لكل برنامج أسلوبه فى التناول، ولكن رد فعل الجمهور فى أغلبه جاء مختلفا ومرحبا بقرارات حادة وعنيفة.. وقد أوضح الوزير مع الإعلامية المرموقة منى الشاذلى يوم السبت الماضى كثيرا من النقاط التى دفعته لاتخاذ هذا القرار، علاوة على كشف بعض مناحى الفساد داخل الوزارة، وربما كان هذا اللقاء أحد أفضل التناولات الإعلامية للقضية باعتبارها مواجهة مباشرة.
ومنذ أيام اتصلت بالدكتور أحمد زكى بدر لاستيضاح ما أثير عن وساطة يجريها الدكتور سيد مشعل، وزير الدولة للإنتاج الحربى، ونائب حلوان بهدف التراجع عن القرار، فرد علىّ الوزير بأنه لن يتراجع، وأن هدفه هو وقف حالة الفوضى العامة والتسيب فى المدارس، وأن ما شاهده فى المدرسة لا يمكن أن يمر دون جزاء رادع.. ودعانى لحضور اللقاء الذى سيجمعه مع المدرسين المنقولين إلى أطفيح عصر يوم الأربعاء الماضى بمقر وزارة التربية والتعليم.. وهناك أصبت بصدمة تلتها صدمات.
كانت الصدمة الأولى بمجرد دخولى للقاعة بعد بدء الاجتماع بدقائق، وفوجئت بأن بعض المدرسين حملوا لافتات تأييد للوزير أحمد زكى بدر فى صورة تشبه الاحتفالات العمالية فى الستينيات من القرن الماضى، وبطريقة لا تتفق أبداً مع كرامة واحترام المدرس.. تجاوزت الصدمة من المشهد، وتابعت بعدها مباراة فى الاعتذار للوزير والاعتراف بأن خطأ فادحا قد حدث، والوعود بالانضباط وعدم التكرار.. وشارك فى المباراة خطباء مفوهون من نقابة المعلمين والمدرسين.. ثم طلب «مشعل» من «بدر» الصفح عنهم لأن العفو من شيم الكرام..
وفى نهاية الاجتماع أعلن أحمد زكى بدر أنه يستطيع أن يتنازل عن أى حق شخصى له، إلا أن الواقعة تتضمن خطأ فى حق الطالب والدولة، وأنه لا يملك التنازل عن هذا الحق.. وقال بدر إنه سيزور المدرسة قريبا جدا، وبعدها سيرى ما يمكن عمله، وطالب المدرسين الذين صدرت قرارات بنقلهم بتنفيذها.. وما فهمته هنا أنه ماض فى طريق العقوبة، وأنه قد يخففها فقط إذا انضبطت الأمور.. هكذا كان الكلام واضحا.. فلا وعد بأى شىء.
انتهى اللقاء، وعدت إلى منزلى، وكالعادة تابعت البرامج المسائية اليومية على الفضائيات لأتلقى الصدمة الثانية.. فكل برنامج تناول الخبر من وجهة نظره الخاصة.. والخبر فى الأصل لا يحتمل التأويل.. أول برنامج أعلن أن الوزير بدر تراجع عن قراراته، واستدعى البرنامج ضيوفا ليسألهم عن آرائهم فى هذا التراجع.. وبالطبع لم يعجبهم الموقف لأنه تراجع، وانتقدوا القرار بشدة..
وبرنامج آخر أعلن أن بدر قام بتجميد قراره السابق بنقل المدرسين، وأثنى الإعلامى الكبير والصديق مقدم البرنامج على هذا التجميد لأن أسر هؤلاء المدرسين سوف تتشرد إذا تم نقلهم، بغض النظر عن الخطأ الذى اعترف به المدرسون.. وبرنامج ثالث أجرى مداخلة تليفونية مع وزير التربية والتعليم، وأعلن الوزير لمقدميه البارزين أنه لم يتراجع وأنه قد يخفف العقوبات فقط بعد زيارة قريبة للمدرسة، ثم انتقلت للبرنامج الرابع الذى أعلن أن الوزير لم يقرر التراجع أو المضى قدما فى قراره.. وهنا قررت أن أكتفى تماما بما شاهدته وسمعته، وقررت أن أحافظ على ما تبقى لى من عقل فى واقعة كنت حاضرا لها وتم بثها كأنها ٤ وقائع مختلفة، وكدت أن أشك فيما فهمته أثناء حضورى بها.
برامج «التوك شو» رفعت سقف الحرية والتفاعل فى مصر بدرجة غير مسبوقة.. وبصّرت المواطنين بما لم يكونوا قادرين يبصرونه من قبل.. ولكن المشاهد ليس مطالبا بأن يلهث وراء البرامج كى يجد المعلومة الدقيقة، ولا يجوز للإعلاميين الأكفاء القائمين على هذه البرامج أن يتناولوا القضايا بوجهات نظرهم الشخصية.. وأتصور نفسى لو كنت ضمن الملايين الذين لم يحضروا الحدث الفعلى.. ماذا كنت سأفهم.. هل كنت سأفهم أن الوزير تراجع عن قراره، أم تمسك به، أم قام بتجميده، أم سيخففه بعد الزيارة التالية للمدرسة؟
أصدقائى الإعلاميين.. رفقا بالمشاهدين.