١/ ٣/ ٢٠١١
فى حواراته التليفزيونية يبدو الفريق أحمد شفيق شخصاً لبقاً ومهذباً كما أن وسائل الإعلام الحكومية تتحدث كثيرا عن كفاءته الإدارية، مع احترامى الكامل لشخص أحمد شفيق فإنه لا يصلح إطلاقا لرئاسة وزراء مصر بعد الثورة. هناك فرق كبير بين الإصلاح الجزئى والثورة. الثورة تستهدف تغييرا جذريا شاملا. الثورة تهدم النظام القديم هدما تاما وتقيم بدلاً منه بناء جديداً يتماشى مع مبادئها وأهدافها.
هكذا كانت كل الثورات فى التاريخ الإنسانى. لقد قامت الثورة المصرية يوم ٢٥ يناير من أجل القضاء على نظام حسنى مبارك الفاسد الظالم وإقامة ديمقراطية حقيقية، دفع المصريون من أجلها ثمنا باهظا: مئات الشهداء ومئات المصريين فقدوا بصرهم بالرصاص المطاطى وآلاف المفقودين لا أحد يعرف إن كانوا على قيد الحياة أم استشهدوا..
كل ذلك تحمله الشعب المصرى بشجاعة حتى نجحت الثورة وتم إجبار حسنى مبارك على التنحى. بعد اختفاء مبارك كان المتوقع والطبيعى أن تمر مصر بفترة انتقال إلى الديمقراطية. هذه الفترة الانتقالية لها خطوات محددة معروفة تتمثل فى الآتى:
١- حل مجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية التى تشكلت بالتزوير فى العهد البائد.
٢- إقالة كل السياسيين المنتسبين إلى النظام السابق.
٣- فصل التفتيش القضائى عن وزارة العدل حتى يتحقق استقلال القضاء.
٤- تكوين لجان تطهير من القضاة المستقلين الذين يتلقون شكاوى الفساد ويتأكدون من جديتها ثم يحيلونها إلى النائب العام.
٥- إلغاء الدستور القديم وإعلان عام للمبادئ الدستورية، ثم الدعوة إلى انتخاب لجنة تأسيسية لوضع دستور دائم جديد.
٦- تكوين حكومة توافقية من وجوه مقبولة من الشعب على ألا يكونوا من المنتمين للنظام السابق. هؤلاء يتولون تسيير الأعمال فى البلاد خلال الفترة الانتقالية، ولا يكون من حقهم الترشح فى الانتخابات المقبلة حتى لا يستعملوا مناصبهم فى الدعاية الانتخابية.
٧- إلغاء قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة بما فيها حرية تكوين الأحزاب والاجتماع والتظاهر السلمى وإصدار الصحف، على ألا تجرى الانتخابات البرلمانية قبل عامين حتى تكون هناك فرصة حقيقية للمصريين للتعبير عن أفكارهم السياسية فيأتى البرلمان المنتخب معبرا بحق عن إرادة الشعب.
٨- الإفراج عن المعتقلين السياسيين جميعا ومنع الاعتقال والتعذيب وإلغاء مباحث أمن الدولة وتقديم كل الضباط الذين انتهكوا كرامة المصريين وآدميتهم إلى محاكمة عادلة.
٩- انتخاب برلمان جديد يشكل أول حكومة ديمقراطية منتخبة.
هذه الخطوات ليست بدعة ولا اختراعا، وإنما هى معروفة فى العالم كله وقد حدثت فى كل الدول التى انتقلت من الاستبداد إلى الديمقراطية. بعد أن أنجزت الثورة المصرية انتصارها الساحق وأجبرت مبارك على التنحى، كنا نتوقع فترة انتقالية سليمة، لكننا فوجئنا باستمرار أحمد شفيق رئيسا للوزراء فى العهد الجديد.. السيد شفيق ينتمى فكريا وسياسيا إلى النظام البائد، وقد أقسم اليمين أمام حسنى مبارك الذى يعتبره قائده ومعلمه وزعيمه.
أضف إلى ذلك أن أحمد شفيق مسؤول سياسيا عن المذبحة التى تعرض لها المتظاهرون على أيدى أفراد الشرطة وبلطجية النظام وقد تعهد بإجراء تحقيقات فى هذه المذبحة ولم يف بتعهده حتى الآن. منذ اللحظة الأولى، مثل كل المسؤولين فى النظام السابق، كان أحمد شفيق معاديا للثورة وظل حتى النهاية يؤكد أن مبارك لن يتنحى أبدا بل إنه سخر من الثورة فشبّه ميدان التحرير بحديقة هايد بارك فى لندن وتهكم على المعتصمين ووعدهم بتوزيع البونبون والشيكولاتة عليهم.
إن تنحى مبارك وانتصار الثورة كان بمثابة هزيمة سياسية عنيفة لأحمد شفيق، فلا يعقل بعد ذلك أن نعهد إليه، هو نفسه، بتنفيذ مطالب الثورة التى أطاحت بزعيمه.. من العبث أن نتوقع من أحمد شفيق إدانة نظام كان هو نفسه من أبنائه المخلصين على مدى عقود. فى عهد شفيق لازالت المجالس المحلية المزورة الفاسدة موجودة، ومازالت النقابات العمالية المزورة تحشد البلطجية من أجل الاعتداء على المتظاهرين، مازالت مقار الحزب الوطنى مفتوحة يتم فيها تجنيد الأنصار وشراؤهم بالمال استعداداً للانتخابات المقبلة.. فى عهد شفيق مازالت مباحث أمن الدولة تعمل بكل طاقتها من أجل إجهاض الثورة..
فى عهد شفيق لم يتم التحقيق مع ضابط واحد من الذين أطلقوا الرصاص على المصريين، بل إن وزير الداخلية فى حكومة شفيق خرج على التليفزيون ليحيى الشرطة ويقول إنها قامت بواجبها على الوجه الأكمل، أى أن قتل المصريين بواسطة القناصة وفقء عيونهم بالرصاص المطاطى، ودهسهم بالسيارات المصفحة، كل هذه الجرائم البشعة يعتبرها وزير الداخلية من ضمن المهام الجليلة للشرطة. الغريب أن وزير الداخلية قد أكد، فى حديثه، أن قلة مندسة وسط المتظاهرين هى التى ارتكبت أعمال العنف، وأكد أيضا أن المتظاهرين كان معهم قناصة من بلاد أجنبية(!)
وزير الداخلية مازال يتهم المتظاهرين بالعمالة ويستعمل تعبيرات القلة المندسة والأجندات الأجنبية، نفس المنطق القديم لنظام حسنى مبارك، منطق أعوج ساذج يستخف بذكاء الناس ويرفض أن يرى شمس الحقيقة ويخفى رأسه فى الرمال كالنعامة. أما أغرب تصريحات وزير الداخلية، وأكثرها استفزازا، فقد أكد فيها أن جهاز أمن الدولة باق ولن يتم حله أبدا ولن يجرى التحقيق مع ضابط واحد فيه وحرص الوزير على الإشادة بالدور الوطنى لجهاز أمن الدولة..(!)
أى أن اعتقال المواطنين دون مسوغ قانونى وضربهم وتعذيبهم ببشاعة وصعقهم بالكهرباء وهتك أعراض زوجاتهم وبناتهم أمام أعينهم، وتخريب الحركة الوطنية المصرية عن طريق الدس والتآمر وتجنيد العملاء، وتخريب الإعلام الرسمى عن طريق توجيهه لحماية النظام بدلا من مراعاة مصلحة الوطن بل وتخريب مصر كلها عن طريق تعيين كتبة التقارير المتعاونين مع أمن الدولة فى المناصب القيادية حتى ولو كانوا فاسدين أو منعدمى الكفاءة.. كل هذه الممارسات التى دأب جهاز أمن الدولة على اقترافها أعواما طويلة، يعتبرها وزير الداخلية مهام وطنية جليلة ومشكورة.
على أى حال نحن نحمد لوزير الداخلية صراحته فقد عبر بوضوح عن الرؤية السياسية لحكومة أحمد شفيق التى هى نفسها رؤية نظام مبارك، أما اللواء مدير أمن البحيرة فقد كان أكثر صراحة عندما ألقى أمام ضباطه كلمة تم تسجيلها بالصوت والصورة، قال فيها إن ضباط الشرطة أسياد المصريين، ومن يمد يده على سيده يجب أن تقطع.
اللواء مدير أمن البحيرة يعتبر أى ضابط شرطة سيداً وأى مصرى مهما كانت مكانته أو مهنته مجرد خادم لسيده ضابط الشرطة، والخادم الذى يتطاول على مقام سيده لابد أن يلقى عقاباً رادعاً.. لا جديد فى كل ذلك. كانت هذه فلسفة نظام مبارك على مدى عقود: الاستعلاء على المصريين وتحقيرهم وانتهاك حقوقهم الإنسانية وارتكاب الجرائم فى حق الأبرياء من أجل الحفاظ على السلطة. الغريب والمؤسف أن يستمر هؤلاء المسؤولون فى مناصبهم بعد أن ثار المصريون على مبارك وأسقطوه. لقد سقط حسنى مبارك لكن نظامه لم يسقط بعد.
المشهد السياسى فى مصر يدل الآن بوضوح على أن هناك فى أعلى السلطة إرادتين متناقضتين: إرادة إيجابية تقف فى صف المصريين وتريد فعلا أن تتحقق طلبات الثورة.. هذه الإرادة الإيجابية تتمثل فى القوات المسلحة التى قامت بحماية الثورة منذ اليوم الأول ورفضت قمع المصريين (باستثناء بعض الحوادث المؤسفة القليلة)، القوات المسلحة التى قامت بحماية أمن مصر عندما تآمر عليها نظام مبارك وسحب الشرطة وأطلق المساجين الجنائيين فى الشوارع وأمرهم بترويع الآمنين وإشعال الحرائق وإثارة الفوضى، مقابل الإرادة الإيجابية للقوات المسلحة توجد إرادة أخرى سلبية فى السلطة تتمثل فى حكومة شفيق التى تعمل على إعاقة التغيير الحقيقى وإجهاض التحول الديمقراطى مع تقديم بعض المسؤولين السابقين كبش فداء.
المصريون يتساءلون: لماذا لم تتم محاكمة ضابط واحد من الذين قتلوا المصريين بالرصاص الحى؟.. لماذا ظل حبيب العادلى بلا محاكمة ولا حتى استدعاء قانونى لمدة أسبوعين، ولماذا يحاكم الآن بتهمة غسل الأموال، وليس بتهمة إطلاق النار على المتظاهرين؟.. لماذا يظل أفراد الشرطة مختفين عن الأنظار ولماذا يلقون بمهمة الأمن على القوات المسلحة؟.. هل المقصود إنهاك الجيش حتى يضيق بالثورة وينقلب عليها، أم أن المقصود معاقبة المصريين على ثورتهم حتى يفتقدوا الأمن فيحسوا بالحنين إلى أيام مبارك؟!.. إذا كان السبب وراء غياب أفراد الأمن، كما يقولون، هو توتر العلاقة بين الشرطة والشعب، فمن الطبيعى أن يظل هذا التوتر قائما حتى يتم إجراء محاكمات عادلة للضباط الذين قتلوا الأبرياء.. لماذا لم يتم حل جهاز أمن الدولة ولماذا التمسك به والإشادة بدوره؟..
لماذا لا يحاكم فتحى سرور ومفيد شهاب وصفوت الشريف ومجدى راسخ ومنير ثابت وغيرهم من أعمدة النظام السابق والمقربين لمبارك وأولاده؟.. لماذا لم يتم الإفراج عن عشرات الألوف من المعتقلين السياسيين، وكثيرون منهم قضوا أعواما طويلة فى المعتقل دون أى سند قانونى؟.. لماذا التعجل فى إجراء الانتخابات البرلمانية بعد شهرين علما بأنه فى فترات الانتقال لابد من إطلاق الحريات العامة لمدة كافية قبل إجراء الانتخابات حتى تأتى نتيجتها معبرة عن إرادة الشعب؟.. ما الفائدة من ترقيع الدستور القديم بدلا من الدعوة إلى دستور جديد يحقق الديمقراطية الصحيحة؟!..
الأسئلة كثيرة والإجابة واحدة.. إن السيد أحمد شفيق لا يعبر عن إرادة المصريين، لكنه على العكس يعبر عن فكر زعيمه وأستاذه حسنى مبارك، وهو بعد أن فشل فى إجهاض الثورة يحاول الآن الالتفاف حول مبادئها وإجهاض مكاسبها. حكومة شفيق عقبة حقيقية ضد التغيير لأنها ببساطة تمنح لفلول النظام البائد فرصتهم الذهبية من أجل استرداد أنفاسهم وتنظيم أنفسهم لكى ينقضوا على الثورة ويجهضوها.. إن بقاء شفيق فى السلطة معناه الوحيد بقاء النظام القديم، الظالم الفاسد، مع إجراء بعض التعديلات التجميلية على وجهه القبيح. واجبنا جميعا أن نعمل على إسقاط حكومة شفيق حتى تنجز الثورة أهدافها، وتبدأ مصر المستقبل الذى تستحقه والذى دفع من أجله مئات الشهداء حياتهم.
الديمقراطية هى الحل
تعليقي الخاص
أ _ علاء الأسواني
مازلنا نتذكر كتابك الرائع ( لماذا لا يثور المصريين ) الذي يحوي مقالاتك الرائعه في فترة الاحتلال المباركي
التاريخ يسجل