إبراهيم الهضيبى
قد كانت البنية التنظيمية والقانونية سببا ونتيجة لما آلت إليه الأوضاع فى مصر قبل الثورة من استبداد وتعدٍ لأجهزة الدولة على حقوق المواطنينلم تستغرق التحقيقات غير أيام، خرجت بعدها الشرطة تقول إن الحريق الذى اندلع فى أثناء حفل بمساكن طلبة جامعة نيويورك فى أبريل الماضى لم يكن مدبرا، وعرضت أكثر من أربعين ألف صورة لاندلاع الحريق جمعتها من أربعين هاتفا وخمسين كاميرا تثبت ما ذهبت إليه، بينما تمر الذكرى الأولى للثورة المصرية من غير انتهاء التحقيقات إلى إدانة أى من المتورطين فى قتل المتظاهرين.
وليس سبب التباطؤ عندنا افتقاد الأجهزة المختصة القدرة على مباشرة التحقيق وجمع الأدلة بفاعلية، إذ هذه الأجهزة ذاتها تظهر كفاءة عالية عندما يتعلق الأمر بجرائم الاختطاف، فتعيد المختطَفين إلى ذويهم فى وقت قصير، وجرائم القتل غير ذات الأبعاد السياسية التى يتم الكشف عن الجناة فيها واحتجازهم فى أزمنة قياسية كما تؤكد الأخبار الواردة فى الصحف القومية.
والسبب الحقيقى للتباطؤ فى قضايا قتل الثوار، ومثلها قضايا التعذيب، هو أن الجهات المكلفة بالتحقيق هى ذاتها المُتَهَمَة بالقتل والتعذيب، وبالتالى فاستعدادها للمعاونة فى تقديم الجناة للعدالة محدود، يصل فى أحيان كثيرة للتواطؤ، كما حدث فى قضية الرئيس المخلوع ووزير داخليته، إذ أدين ضباط بإتلاف بعض أدلتها.
وفساد جهات التحقيق ومسئوليتها عن القتل يعطل مسار العدالة بإحدى طريقتين، أولاهما عدم التعاون مع النيابة، التى تضطر أحيانا ــ لاعتبارات سياسية ــ لتقديم القضايا للمحاكم رغم ذلك، فتكون غير مكتملة الأركان، مما يؤدى لصدور أحكام ببراءة بعض المتورطين فى القتل، وليس مقصد ذلك تبرئة ساحة النيابة، فالتعيينات فيها كغيرها من مؤسسات الدولة قامت فى أحيان على أساس الولاء لا الكفاءة، وأعمالها فى الكثير من القضايا شابها تقصير واضح.
وأما ثانيتهما فهى عدم تحويل القضايا للمحكمة، وقتلها مبكرا فى طور التحقيق لعدم اكتمال الأركان، الأمر الذى تكرر كثيرا فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك (انتهت أغلب التحقيقات فى انتهاكات الشرطة بحفظ التحقيق وعدم توجيه اتهام)، وتكرر بعدها فى الأحداث المتلاحقة التى سالت فيها الدماء منذ اندلاع الثورة.
وإفلات الأجهزة من العقاب بسبب التقصير فى التحقيقات يؤدى لاستمرار جرائم القتل والتعذيب، إذ مقصد العقوبة فى فلسفة القانون يتخطى إيلام المدان إلى الردع العام الذى يمنع الغير من الإتيان بنفس الجريمة، واطمئنان القتلة والمتورطين فى جرائم التعذيب لعدم إمكان توقيع العقوبة لسيطرتهم على أدلة الجريمة يشجعهم على تكرارها، وهو ما رأيناه من استمرار القتل فى أحداث التحرير فى إبريل، ومسرح البالون فى يونيو، والعباسية فى يوليو، وماسبيرو فى أكتوبر، وشارع محمد محمود فى نوفمبر، ومجلس الوزراء فى ديسمبر.
وفى هذه الأحداث وغيرها تم انتداب قضاة للتحقيق، فوجدوا أنفسهم بين بلاغات مصحوبة بقرائن تتهم المتظاهرين بالتخريب من جهة، وبلاغات مصحوبة بشهادات الوفاة وتقارير الطب الشرعى تطالب بالتحقيق فى القتل، فاختاروا سلوك الطريق الأسهل بالتحقيق فيما توافرت له قرائن بدلا من بذل الجهد المستحق لأداء واجب الدماء التى تعلقت فى أعناقهم بحكم عملهم.
والانحراف فى التحقيق ناتج عن مشكلتين رئيستين، أولاهما تتعلق بجدية قضاة التحقيق والنيابة فى جمع الأدلة، والمقارنة بين عملهم والتحقيقات فى حريق جامعة نيويورك تكشف عن بعض أوجه القصور فى الحالة المصرية، فجرائم مثل ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء تمت تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية التى تحتفظ كاميراتها (سواء فى مبنى ماسبيرو أو الجامعة الأمريكية ومجمع التحرير ووزارة الداخلية أو مجلس الوزراء ومجلس الشعب) بتفاصيل كثيرة لما وقع، فكان الأولى بالمحققين الإصرار على تسلمها وعرض ما فيها على الرأى العام، ومطالبة شهود العيان التقدم بما تحت أيديهم من صور وفيديوهات للوقائع، وجل هذا لم يحدث بسبب تقاعس الجهات المسئولة عنه عن أداء مهام وظيفتها.
المشكلة الثانية تتعلق بالبنية التشريعية للقانون الجنائى، الذى يُحَمِل المتضرر عبء الإثبات وإقامة الدليل، الأمر الذى يعنى ــ فى هذه الحالة ــ أن آحاد الناس من ذوى الشهداء والمصابين مكلفون ــ لكى يقتص من الجناة ــ أن يتقدموا ببلاغات مصحوبة بالأدلة التى تسيطر عليها أجهزة الدولة، وهو عمليا يؤدى لاستحالة إثبات التهمة.
وهذه القاعدة القانونية صحيحة فى العموم، وهى تتسق مع الأصل الشرعى والقانونى القائل بأن البينة على من ادعى، بيد أنها فى هذه الحالة خصوصا تقصر عن تحقيق معنى العدالة، نظرا لأن الجهة المختصة بتقديم الدليل أو الإعانة على ذلك تصير مصلحتها إخفاءه، وهو ما تنبه إليه المشرع المصرى فى القانون الإدارى فنقل عبء الإثبات فى قضايا الأفراد ضد مؤسسات الدولة إلى الأخيرة، التى تصير مكلفة بحكم القانون بتقديم ما يثبت نقض الدعوى وإلا أثبتتها المحكمة.
وغنى عن البيان أن القانون الإدارى يختلف فى بنيته عن الجنائى، كون الأول تترتب عليه حقوق إدارية ومالية فيما الثانى يتضمن عقوبات مادية بالإعدام والحبس للمدانين، وهى تحتاج قدرا أكبر من التيقن، غير أن هذا لا يمنع من تحميل أجهزة الدولة قسطا من عبء الإثبات، وذلك بالزامها بتقديم المستندات محل التحقيق للجهات المختصة وتغليظ العقوبة إن هى تأخرت فى ذلك أو أفسدت الأدلة، وبتمكين القضاة من الاستناد إلى إفساد الأدلة وعدم تقديمها كقرائن قوية لإثبات الدعوى محل النظر، وبالتوسع فى استخدام هذا الأمر فى الحالات التى تكون أجهزة الدولة متهمة فيها بالقتل الجماعى الممنهج، كما هو الحال فى الأحداث سالفة الذكر.
لقد كانت البنية التنظيمية والقانونية سببا ونتيجة لما آلت إليه الأوضاع فى مصر قبل الثورة من استبداد وتعدٍ لأجهزة الدولة على حقوق المواطنين، وقد أوجب قيام الثورة إعادة النظر فى هذا البناء التشريعى والتنظيمى بما يضمن تحقيق مقصد صون كرامة المواطن المصرى، وهذا أمر لا مناص من الخوض فى تفاصيله عن مباشرة كتابة الدستور الجديد.
بيد أن القضية لها شق مستعجل لا يحتمل الانتظار للدستور الجديد، إذ يكفى ما تعرض له أهالى الشهداء من آلام بفقد ذويهم، وبالتأخر الشديد ــ الذى قارب على السنة ــ فى القصاص، ولا أظنهم يستحقون منا أن نقتلهم مرات أخرى بتقاعس النيابة، وبإتلاف أجهزة الشرطة الأدلة، بينما الأهالى تحترق قلوبهم، خوفا من سماع أحكام ظالمة تقضى ببراءة من قتل ذويهم، أو لا تحاكمهم من الأساس، وبعض الأهالى مغلوب على أمره، وبعضهم سيدفعه تقصير الدولة فى القصاص لهم لأن يحاولوا هم الانتقام لذويهم، وهو ما يفتح أبوابا من الخطر ينبغى السعى للمبادرة بإغلاقها.
رأي المدون:
لا تعليق
التاريخ يسجل