[size=18]جمال سلطان
اتخذ الموقف من مشروع الدستور الجديد منحى عاطفيا متشنجا للغاية ، سواء من قبل من يسوقون له كإنجاز تاريخي ، أو من يرفضونه كلية باعتباره نتاجا غير شرعي لمنظومة غير شرعية من حيث الأصل ، وأصبح من النادر أن تجد الموقف الذي يناقش الورقة الدستورية الجديدة بشكل علمي أو موضوعي يتعلق بها ، بعيدا عن الاستثمار السياسي للموقف منها ، وقد لاحظت أن التطرف وصل مداه في الطرفين ، فأنصار الفريق الأول اعتبروا أن من يرفض الدستور الجديد أو يصوت ضده هم أعداء الوطن ، أي أنهم بدأوا بتكفير المخالف سياسيا ، وفي المقابل أنصار مرسي يرون الموافقة عليه أو حتى المشاركة في التصويت خيانة لله ورسوله وللوطن أيضا والشرعية ، وما بين التكفير السياسي والتكفير الديني تضيع الحقيقة غالبا ، وقد قرأت نصوص الدستور الجديد مرتين ، مرة قراءة عامة للنظر والاطلاع ، ومرة للوقوف الفاحص في مواد بعينها رأيت أنها خطرة ، وقد لاحظت ـ فيما لاحظت ـ أن من وضعوا الدستور الجديد كرروا مرارا وتكرارا في تصريحاتهم الصحفية أنه ليس الأفضل وليس هو الطموح الكامل للشعب والثورة ، ولكنه أفضل ما يمكننا فعله الآن ، وهو إقرار ضمني من البداية بوجود عوار في هذا النص ، وأنهم تجاهلوا إصلاح هذا العوار ، وهم يعرفون أنه عوار ، ربما لخضوعهم لضغوط من نوع ما ، لأن مثل هذا الكلام لا يصح أن يقال على لسان من يضعون ويختارون النصوص التي تمثل مرجعية القوانين وقوام العدالة وعماد الدولة المصرية ، الكمال لله وحده ، تلك مسألة مبدأية ومطلقة ، ولكن الإيمان بها لا يعفي من أن نصف الخطأ بأنه خطأ ، وأن نحاسب من أخطأ ، ولا يمكن التسامح مع من أخطأ أو النص الخاطئ لمجرد التلويح بأن الكمال لله وحده ، هذا هروب من المسؤولية بدروشة فارغة .
الدستور بدأ بديباجة ومقدمة قيل أن الذي كتبها الشاعر الكبير "سيد حجاب" ، وأنا شخصيا أحترم موهبة هذا الرجل كثير وقد أهدانا بالفعل أعمالا فنية رائعة ، وله تأملات إنسانية تتسلل إلى عمق مشاعرنا بصدق وصفاء ، كما أن فيه من التواضع والروح الجميلة ما يندر في أبناء جيله من الشعراء ، ولكن تحميله كتابة ديباجة دستور الثورة كان توريطا حقيقيا ، لأن النص الذي خرج أقرب لموضوعات الإنشا التي يطلب من طلاب الثانوية العامة كتابتها في المناسبات الوطنية للتعبير عن مشاعرهم العفوية تجاه وطنهم ، وتعب الرجل وهو يهجر العامية التي هي أداته ولغته الفنية ، لكي يصول ويجول "عم حجاب" بعواطفه بين مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول والنحاس باشا ـ ليبسط البدوي ـ ومرورا بعبد الناصر ، ليبسط سامح عاشور وضياء ، وانتهاءا بالسادات ، ولقد تمنيت أن تحذف هذه الديباجة أو تختصر في سطرين أو ثلاثة بلغة رصينة وصارمة لشيوخ القانون ، ثم بعد ذلك ، وضعوا عشرات المواد في مقدمة الدستور هي مضحكة جدا بالفعل ، وأشعر بالحرج الشديد كمصري أن يقرأها الآخرون فيسخرون من هذه السخافات التي نقول لهم أنها نصوص دستور بلادنا ، فضلا عن حشو كلام في مواد أخرى عن انتماء مصر الأفريقي واعتزازها بالامتداد الآسيوي وهذا كثير في البنود الأولى ، وخذ عندك مثلا : المادة 20 ـ تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفنى والتقنى والتدريب المهنى وتطويره ، هل هذا نص يوضع في أبو القوانين ومرجعيتها ، وخد عندك : المادة 22 ـ المعلمون، وأعضاء هيئة التدريس ومعاونوهم، الركيزة الأساسية للتعليم ، كلام مصاطب ، وخذ عندك : المادة 29 ـ الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني ، وهو اكتشاف مدهش جدا في الحقيقة ، وخذ عندك : المادة 30 ـ تلتزم الدولة بحماية الثروة السمكية ودعم الصيادين ، وقبل أن تنفجر في الضحك خد عندك : المادة 39 ـ الادخار واجب وطني ، يعني ـ لا مؤاخذة ـ اللي مش عايز يحوش راجل مش وطني بنص الدستور ، ويكتب مثل هذا النص في دستور الدولة ، وخد عندك : المادة 43 ـ تلتزم الدولة بحماية قناة السويس ، وتليها : المادة 44 ـ تلتزم الدولة بحماية نهر النيل وعدم إهدار مياهه ، وأضف لها : المادة 45 ـ تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها ، والمادة 49 ـ تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها ، وهذا مما يسمونه الشرح في المشروح ، ويعتبره الفلاسفة من قلة العقل ، لأنه غير لائق أن تكتب في دستور مصر أن الدولة تحمي نهر النيل مثلا ، لا يا شيخ ، كأن هناك احتمالا أن تقول الدولة المصرية في يوم من الأيام أن نهر النيل ليس من مسؤوليتي حمايته ، ما هذا الهراء ، واقرأ إن شئت المادة 237 ـ تلتزم الدولة بمحاربة الإرهاب ، وكأن الدولة تنتظر من يدعوها لأن تحلف على "المصحف" كما يقولون أنها ستكافح الإرهاب وتتصدى للإرهابيين .
غير أن هذا الاستطراد الهزلي والمهين للشخصية الاعتبارية للدولة المصرية ، أعتقد أنه كان مقصودا قصدا ، حتى تتوه في هوجة هذه البنود التافهة بنود أخرى قليلة ، لكن خطيرة للغاية ، وهي التي تحدد بشكل حاسم شكل الدولة ، وتوازن القوى فيها ، وتوازن السلطات ، والضمانات الحقيقية لمولد دولة حديثة ، وليس إعادة إنتاج للفرعونية بثياب جديدة خادعة ، وهذا ما نعالجه في المقالة التالية بأمانة وتجرد وإخلاص النصيحة للوطن والثورة ...
http://almesryoon.com/المقالات/blog/11-جمال-سلطان/318275-قراءة-نقدية-في-الدستور-الجديد