تركيز زويل وتشتيت مفاجئ
بقلم محمد المخزنجى
حقًا أود لو أعتذر
وهو اعتذار عن واقع يفاجئك دائما بما يقتحم صفاء موضوعك، ولا تستطيع أن تتجاهله، فتبحث عن صياغه تتيح لك تضمينه فيما خططت لقوله، فمكالمة تليفونية وحوار منشور ليس لهما علاقة بالدكتور زويل وإن كانا متعلقين بالعلم، جعلانى أُغيِّر ما أعددته للنشر هذا الأسبوع بعنوان «زويل.. بالعين المجردة»، وكان بداية ترصد التكوين النفسى للعالم الكبير، بعد ثلاثة لقاءات أتاحت لى بعض الاقتراب منه وبعض التأمل لشخصيته المُـحَبَّبة والفريدة بالفعل، تمهيدا لمقالتين تتناولان إنجازه الفذ فى تاريخ العلم وتوضحهما، لاستشعارى أن عشرات ملايين الناس الذين يحبون زويل ويقدرونه، فى حاجة لمزيد من التعَرُّف على إنجازه العلمى، لعل حبهم له يغتنى بحب العِلم الذى لا بديل عنه كرافعة مصيرية لانتشال بلادنا من وهدتها، إضافة لروافع أخرى بديهية، كالعدل والحرية وكرامة الإنسان.
المكالمة كانت من العالِم الدكتور محمد بهى الدين عرجون، أستاذ هندسة الطيران وعلوم الفضاء بهندسة القاهرة، وقائد مأثرة البرنامج الفضائى المصرى وباكورته قمر الرصد والتصوير «مصر سات 1»، كما أنه أحد علمائنا المهتمين والمهمومين فعلا بقضية النهضة فى مصر، والذى كان منفعلا أشد الانفعال وهو يهاتفنى متحدثا عن خبر منشور يقول إن مدير وكالة ناسا صرّح بأن مصر فى حاجة ماسة لقمر صناعى علمى، وكأنه لا يوجد قمر صناعى مصرى يدور فى الفضاء بالفعل، واستغربت أشد الاستغراب أن يكون «مدير ناسا» قلبه على مصر إلى هذا الحد، لكننى عندما قرأت الخبر، شعرت بالصدمة، وبالحرج.
الصدمة مرجعها أن الخبر، ليس لديه خبر لا عن ناسا ولا عن مديرها ولا عما نشرته «الشروق» عن البرنامج الفضائى المصرى المهدد بالضياع، ثم إن «الشروق» كانت صاحبة انفراد صحفى كبير لم تطنطن به عن نجاح فريق علمى مصرى فى استعادة الاتصال بالقمر «مصر سات1» وهى عملية تساوى الإمساك بقمر فضائى شارد وإجادة السيطرة عليه فى مداره. وتبيّن أن تعبير «مدير ناسا» هو خطأ بالتأكيد، فالتصريح منسوب لعالم مصرى شاب نقدره ونحبه ونأمل فيه الكثير، وهو يشغل موقعا متقدما فى أبحاث ناسا، لكننا نحذره من أخطاء وأخطار الإسراف الإعلامى، لأن هذا يمكن أن يؤذى مسيرته العلمية الواعدة.
الخبر أثار انفعال الدكتور عرجون لأنه تجاهل وجود برنامج فضائى مصرى قطع خطوات فعلية معقولة، فثمة فريق علمى مصرى شارك فى صناعة القمر «مصر سات1» وأثبت قدرته منفردا على التحكم فيه، مما يعنى أن هذا الفريق لديه معرفة عميقة بأدق دقائق القمر، والذى تتطلب الضرورات الوطنية القصوى، ومنها كارثة السيول على سبيل المثال، إتباعه بالقمر الصناعى «مصر سات 2» وصولا لتصنيع وطنى كامل للأقمار الصناعية إضافة لتشغيلها والتحكم فيها من الأرض.
ومرة أخرى، فى إطار الاعتذار، هناك عالِم عرفناه بصفة «مُرشح لجائزة نوبل»، وهو رجل لا شك أن له شأنا فى الفيزياء النظرية، التى لا أعرف أحدا فاز بنوبل فى مضمارها بغير تجارب للإثبات، حتى أينشتين الذى كان فوزه بها لا يتعلق أبدا بنظريتيه فى النسبية لأنهما لم تكونا مثبتتين حينها، بل فاز بنظرية أثبتها بتجارب تحويل الضوء إلى طاقة كهربية، ولقد صدمنى عالِمنا «المرشح لنوبل» بحديث نشرته جريدة كبرى قُبيل دخوله غرفة العمليات لإجراء جراحة قيل إنها نادرة، ودعوت له بالشفاء قبل أن أمضى مع حديثه الذى حمل عنوان «وصيتى لمصر»، قال فيه كلاما معقولا قليلا فى العلم، ثم.. ثم انهمر هتافا لرموز السلطة، وللوريث، بل حتى لوزير يشكو منه أهل العلم أنفسهم، ولم ينس أن يلطخ كل مُعارٍض أو ساعٍ للتغيير وكذلك الصحف المستقلة! فأى وصية هذه؟
ما هكذا يكون العلماء ولا يكون العلم، وهنا أداعب لماحية الدكتور زويل المرحة فأقول له «أنت السبب»، ولا أعرف بأى ردٍ سريع البديهة سيعاجلنى، لكننى أرجِّح أنه سيضحك ضحكته الصافية الذكية تلك، التى يرفع فيها وجهه عاليا قليلا كأنه يريد أن يوصلها للسقف أو للسُحب، ثم ينهى الضحكة ليدخل فى حديث تحليلى علمى جدى للموضوع. والموضوع كما يبدو لى هو أصداء وظلال تحاول مُحاكاة ظاهرة الدكتور زويل، لكن الدكتور زويل لم يتحول إلى ظاهرة إلا بعد إنجاز حقيقى ملموس وكبير جدا على مستوى البشرية، فاستحق جائزة نوبل منفردا ومتفردا، ثم إنه بعد نوبل لم يقعد ويتفرغ للإعلام، بل عكف على إنجاز علمى جديد وحصل على براءة اختراع تشكل ثورة علمية عالمية تستحق نوبل ثانية. ثم، لا ينبغى أن ننسى أن زويل ظل يعمل فى صمت لوقت طويل جدا حتى بدأ يجنى ثمار عمله الشاق والملهم، وأتذكر أنه عندما تكرر ترشيحه لنوبل واقترابه من إحرازها أننا لم نكن نعرفه، ولا هو اقتحم علينا حياتنا بلقب «مرشح لجائزة نوبل»!
لقد تشرفت ثلاث مرات بلقاء الدكتور زويل ضمن كوكبة محترمة. فى المرة الأولى تكلمت معه فى العلم، وهو عندما يتحدث فى العلم يتجلّى كما تجلّى فى لقاء الخمسين مليون مشاهد مع النبيل محمود سعد والمتألقة منى الشاذلى على قناة دريم، وفى المرة الثانية حدث أن رأيته مع الدكتور غنيم فانشرح صدرى للصداقة والتآلف الواضح بينهما، فهما من معدن مصرى نفيس واحد وإن بديا مختلفين فى التشكيل، والمشترك الواضح بينهما هو، أولا: العكوف فى صمت على العمل وبلورة الإنجاز ثم الحديث عنه فيما بعد بموضوعية مع الإشادة دائما بروح الفريق. وثانيا: الحرص الشديد على تحرير الذات لإطلاق جوهر الطاقة المبدعة نحو ما هو خلاّق فى العلم والحياة، ولكل منهما أسلوبه فى حماية حريته الإنسانية.
فى المرة الثالثة جلسنا متجاورين، وقلت للدكتور زويل: «دكتور.. إننى لم أتوقف عن تأملك فى صمت، ولقد وصلت إلى تحليل ملخصه أنك رجل لا يجب وصفه بمعايير التواضع أو الغرور، فأحدهما يمكن أن يكون قناعا للآخر، لهذا أراك خارج هذا التصنيف شخصا سَلِسا يتصرف بارتياح وكأن العالم بيته وكل من يلتقيهم فى هذا البيت هم أهل وأصدقاء ومعارف وأحبة. لكننى لا أصدق أن هذه حقيقتك الوحيدة، فأنا قرأت عن الميكروسكوب الإلكترونى رباعى الأبعاد وأراه شيئا مهولا ولا يمكن الوصول إليه ببساطة حقيقتك الاجتماعية تلك، ولقد رأيت صورة لك تتمشى بلا جاكت فى ردهة طويلة وأنت فى استغراق داخلى شديد. هل هذه هى حقيقتك الثانية المرتبطة بالعالِم فيك؟».
صمَت الدكتور زويل ووضع قبضته المضمومة أمام فمه كأنه يتأهب للنفخ فيها، وهى إيماءة لاحظته يكررها عندما يهم بالحديث فى نقطة مهمة أو ملاحظة عميقة، ثم أنزل يده واستراحت أساريره وأمال رأسه نحوى لأسمعه بوضوح: «بُص يا دكتور محمد.. فعلا الصورة دى كانت فى مكان قريب من معملى فى كالتك.. وأصل أنا عندى حاجه باسميها Focusing (التركيز فى نقطة محددة) لما أكون بافكر فى بحث أو كتاب أو مشكلة علمية لازم تركيزى يوصل لـ100% حتى زوجتى بتشتكى لما أكون فى هذه الحالة وهى تتكلم فى موضوع تريد أن أتابعه. شوف أعتقد إنه لا يمكن بالفهلوة والسطحية إن الإنسان يطلع بحاجة كبيرة. لابد من بلْوَرة الأداء».
هذه هى المسألة: لابد من التركيز، وبَلْوَرة الأداء، ونبذ الفهلوة والسطحية، لإنجاز عمل كبير، أو حتى صغير مهم.
شكرا للدكتور زويل.
المصدر : جريده الشروق
بتاريخ : الخميس : 18 / 2 / 2010 .