مستقبل الثورة بين مسارين: البشري والبرادعي
معتز بالله عبد الفتاح
أرجو أن نخرج بسرعة من حالة "التلاوم" أي أن يلوم البعض البعض الآخر إلى حالة استيعاب ما حدث ولماذا حدث. لا شك أن هناك أخطاء عديدة وقعنا فيها جميعا، ولا أستثني نفسي ابتداء. وكلها تنبع من أنها "ثورة في مجتمع محافظ." كمن يعزف موسيقى أجنبية حديثة بأدوات تقليدية محلية، فلا شك أن المنتج النهائي لن يكون لا هو المنتج الوافد ولا هو المنتج المحلي.
أبدأ بتشخيص ما حدث.
مصر كانت أمام مسارين ويمكن لي اختزالهما في عنوانين: مسار "البشري" ومسار "البرادعي." أما مسار البشري فهو المسار الذي اختاره المصريون في 19 مارس 2011، والتزم المجلس العسكري بنصفه ونال من نصفه الآخر بإصدار الإعلان الدستوري مرة ثم تأجيل الانتخابات مرة ثم الاستجابة لمطالب القوى الحزبية التي طالبت بأن تكون كل الانتخابات بالقائمة النسبية دون مساحة للانتخابات الفردية وصولا إلى صيغة الثلث والثلثين.
فكانت طلبات "ثورية" في مجتمع (ومعها دولة) لم تزل تسير على القواعد المحافظة المستقرة من عقود. وما يذكر أن "مسار البشري" كان قائما على تعديل دستور 1971 كي يكون هو دستور المرحلة الانتقالية لمدة عام يتم فيه عمل دستور جديد للبلاد، ومع هذه التعديلات الدستورية كانت هناك أربعة قوانين لمباشرة الحقوق السياسية ولانتخابات مجلس الشعب وانتخابات مجلس الشورى والانتخابات الرئاسية. وكان أهم ما كان في قانوني انتخابات مجلس الشعب والشورى هو أن تجري الانتخابات بالنظام الفردي. ولما اتسعت الاجتهادات ودخلنا في جدل أيها دستوري وأيها غير دستوري، تحدثت بإسهاب عن اقتراح للمستشار أحمد مكي بشأن تبني "نظام القائمة النسبية المفتوحة" والتي ما كانت لتأخذنا في اتجاه حل مجلس الشعب وكانت ستوفر الكثير من الجهد والجدل وستحقق العديد من منافع "القائمة النسبية" التقليدية.
وكانت مزية هذا المسار، لو التزمنا به، أنه كان سيخرج المجلس الأعلى للقوات المسلحة من اللعبة السياسية بسرعة نسبية خلال العام الماضي، وتترك اللعبة السياسية للمدنيين.
أما مسار "البرادعي" وهو رمز لعدة اقتراحات، كلها جيدة، ولكنها ظلت بعيدة عن التطبيق المباشر إما لأسباب تتعلق بعدم تكامل الرؤية أو عدم توافر الشروط الموضوعية لها. وكان هذا المسار يفترض في أحد جوانبه إمكانية تكوين "مجلس رئاسي مدني" من عدة أشخاص بتوافق معين، من الواضح صعوبته، بحيث تنتقل مقاليد الدولة إلى هذا المجلس. ولكن أقوى ما في هذه الفكرة أن يتم انتخاب (أو ربما التوافق مرة أخرى) مجلس انتقالي مثلما هو الحال في تونس الآن من أجل كتابة الدستور وتشكيل الحكومة (ربما تحت إدارة المجلس الرئاسي، أو كبديل عنه) قبل الانتخابات التشريعية. وهذه الفكرة ليست بالضرورة معيبة. ولكنها كانت مرشحة لتفجير الأوضاع لأن التوافق المفترض ليس مضمونا تجاه قضايا صراعية في نخبة سياسية متشرذمة، فضلا عن احتمال أن تؤدي الانتخابات إلى تركيبة مشابهة لتركيبة مجلس الشعب.
المعضلة لم تكن في مسار "البشري" ولا في مسار "البرادعي" المشكلة في أننا "تحسبُنا جميعا وقلوبُنا شتى." أزعم أن كلا المسارين كان جيدا بشرط أن نلتزم به كاملا. لا يمكن أن أقود سيارة بكتالوج عمل السفينة.
وأسوأ ما حدث خلال الفترة الماضية أن أنصار كل مسار سعوا باجتهاد لإخراج القطار عن المسار الآخر، وأساء الكثير من أنصار كل مسار لمسارهم حين اضطربت أولوياتهم ودخلوا في تهديدات وصراعات لم تكن مفيدة مع مؤسسات الدولة الأخرى أو مع قوى سياسية مناوئة.
وبناء عليه، يمكن أن نستنتج أن العيب "عيب مصنع،" وليس عيب "تشغيل." بعبارة أكثر تفصيلا نحن لم نكره الاستبداد بما يكفي حتى نكون أحرارا، نحن لم نكره الظلم بما يكفي حتى نكون عادلين، نحن لم نكره الفرقة بما يكفي حتى نكون متحدين، كل ما فعناه أننا تخلصنا من مبارك ثم تصارعنا على من يحل محله. الدرس بسيط وعميق: الثورة ستنجح فقط إن نجحنا في أن نثور على أسباب الانتكاسة. وانتخابات الرئاسة اليوم مناسبة هامة لإنقاذ ما بقي من الثورة.
إذن ما العمل؟
آخر ما تريده مصر أن يحدث صدام بين قطارات العمل السياسي في مصر التي تسير بسرعات متفاوتة في نفس الاتجاه نحو نقطة الصدام. لا بد من منع الصدام عبر الإجراءات السبعة التالية:
أولا، لا بد من استكمال انتخابات الرئاسة والمشاركة فيها بفعالية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الثورة. مع كل تقديري لنزعة بعض الثوريين للمقاطعة والإبطال، أرجو أن يكون واضحا أن الصمت في هذا التوقيت ليس الموقف الأنفع للثورة أو للدولة.
ثانيا، لا يزال العدو الأول لتجربة التحول الديمقراطي هو سيطرة فصيل واحد على مقاليد السلطتين التشريعية والتنفيذية. وما كان يدعو البعض للتخوف من التصويت في اتجاه معين هو الخوف من سيطرة هذا الاتجاه على المؤسستين التشريعية والرئاسية، فقد زال هذا التخوف الآن بل وبدأ يبرز هذا التخوف في الاتجاه المضاد تماما.
ثالثا، احترام نتيجة الانتخابات، طالما لم توجد عمليات تزوير ممنهجة وموثقة، هو في ذاته انجاز كبير للثورة ينبغي أن نحافظ عليه. أعلم أن الأمور بلغت درجة من الاستقطاب أن التصويت الآن أصبح في ذهن كثيرين ليس تصويتا للاختيار بين مرشحين ولكنه، من وجهة نظرهم، معركة حياة أو موت. ولكن المشكلة أن منصب الرئاسة لا يمكن تقسيمه على اثنين. وبالتالي علينا أن نستعد نفسيا أن هناك احتمالا أن يفوز الشخص الذي لا نريد.
رابعا، انتخابات مجلس الشعب الجديدة ستكون خلال ستين يوما على أغلب الظن، وعلى القوى الثورية أن تجتهد بسرعة في الاستعداد لها لأن أضعف ما كان في مجلس الشعب الماضي هو أنه كان يعكس قوى الماضي أكثر من تعبيره عن قوى المستقبل.
خامسا، على الجمعية التأسيسية الجديدة للدستور أن تنهي عملها قبل انتخابات مجلس الشعب واضعة في اعتباره حتمية التخلص من بعض العوار في دساتير مصر المتعاقبة منذ الستينيات مثل تقييد الحقوق والحريات بالإحالة للقانون ومثل اشتراط أن يكون نصف أعضاء المجالس المنتخبة على الأقل من العمال والفلاحين.
سادسا، على المجلس العسكري أن يحسن قراءة المشهد وألا يتخذ من الإجراءات والقرارات ما يجعل الوطن يعود إلى 25 يناير مرة ولكن بدلا من الهتاف ضد مبارك، يكون الهتاف ضد المجلس العسكري. وعلى رأس مساحات الحذر الواجب أن ينأى بنفسه تماما عن أي تدخل في عملية صياغة الدستور أو أن يسيء استخدام السلطات التشريعية التي يزعم أنها عادت إليه بعد حل مجلس الشعب.
سابعا، على الرئيس الجديد أن يتواضع بشدة عند فوزه وأن يعلن إجراءاته لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تقوم على إحقاق الحق ومعاقبة المفسد والمستبد من ناحية وعلى استيعاب الخاسرين في ا لانتخابات سواء في الجولة الأولى أو الثانية.
أخيرا، مصر أقوى كثيرا من كل هذه المطبات والمحن، وأقدر على أن تتعلم من أخطائها. وكما قال الدكتور الزكي النجيب محمود في أعقاب نصر 1973: "والمصري بصفة عامة متفاؤل بطبعه، يعلم في يقين أن في الكون تدبيرا (يقصد الخالق سبحانه وتعالى) يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا أو إجحاف هناك إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر إلا ليعقب عليه بما يوازنه. والمصري المتفاؤل بطبعه يعلم أن إرادة الله متمثلة في إرادته وأن الأمور سائرة آخر الأمر إلى خير، وأن بعد العسر يسرا، وأن بعد العسر يسرا."
مهما كانت التضحيات ومهما كان الثمن، سنكون أقوى، وستكون مصر أفضل بإذن الله.
https://www.facebook.com/notes/moataz-abd-alfattah-%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B2-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%AD/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D9%8A-%D9%87%D8%A7%D9%85-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%88%D9%8A%D8%AA-%D8%BA%D8%AF%D8%A7/374980569232161