أبطال «الحريّة» احترقوا بنار السلطة
وائل عبد الفتاح
إضراب 6 و7 نيسان/ أبريل، أسفر عن عودة «المشاغبين» إلى الحظيرة، كاشفاً حدود الحرية الافتراضيّة التي يتمتّع بها الإعلام المصري التقليدي! لكنّه أعلن ولادة إعلام جديد، يحدده مواطنون ملّوا النجوم الذين لعبوا ضمن الهامش المتاح من دون أن يتجاوزوا الخطوط الحمر
ظلت منتجة البرنامج الشهير تصرخ في غرفة الكونترول «ستوب ستوب» ثم بدأت مرحلة التهديد: «الوزير ها يوقّف البرنامج». لم يلتفت فريق الإعداد واستمرت المغامرة. كان الهدف إنقاذ المذيع الرئيسي من براثن صحافي محترف في التهام خصومه، ويتربّع الآن على عرش خدم السلطة... لكنه فاز على المذيع بالضربات الأولى وتحوّلت هزيمة الأخير إلى عامل إضافي في شهرته كمشاغب شعبي للسلطة.
الواقعة تتكرّر هذه الأيام، إنّها ظاهرة جديدة نسبياً، نتيجة مرحلة «ما بعد الجزيرة» التي كرّست فكرة الحوار المفتوح على الهواء بين أطراف سياسية متصادمة. وعلى رغم أنّ المرحلة الأولى انتهت بتحوّل المذيع إلى مدير حلبة صراع الديكة (أشهرهم طبعاً فيصل القاسم)، إلا أنّها فتحت الباب أمام صورة أخرى، غير صورة المذيع كصوت السلطة أو بتعبير أدق عازف في كورس السلطة ومبرمج دعايتها. وهذا ما كان يقال عن مذيعي مرحلة الناصرية، أشهرهم طبعاً أحمد سعيد الذي أوغل في العزف منفرداً حتى إنّه رسم عبر صوته في إذاعة «صوت العرب» صورة مفخّخة لحرب حزيران ١٩٦٧ حوّلت الهزيمة إلى نصر كبير... وأضافت إلى الهزيمة العسكرية شعوراً بأنّ نظام عبد الناصر يكذب عبر واجهته الإذاعية. اكتشاف الخدعة أنهى موديل أحمد سعيد على مستوى علاقة الجمهور بالمذيع. لكنّه لم ينهِ حاجة السلطة إلى صوت، ثم إلى وجه في مرحلة التلفزيون ليكون واجهتها. وبعد «صوت» أحمد سعيد، كانت همت مصطفى الوجه الوقور لعصر السادات. ولأنّ السادات له نفسية النجوم، لعبت حوارات مصطفى معه دور «بروباغاندا» خالية من الإيديولوجيا المباشرة، ولو مررت أفكار الرئيس المهووس بالأضواء.
لم يكن المذيع حينها يستطيع الخروج عن الخطوط الحمر. ولم يكن التلفزيون سوى الشرفة التي يطل منها الرئيس على شعب يحاصره. وقتذاك، خرج أكثر من مذيع لم يتحمّل هواهم الناصري رياح العصر الجديد. هؤلاء شكّلوا نواة لموديل مذيع معارض، يشاغب السلطة، مثل حمدي قنديل الذي كان أول بوادر ظاهرة تنتشر الآن، ويتحول فيها المذيع من مدير للحوار إلى مشارك مباشر يلقي اتهامات سياسية كما حدث أخيراً في تغطيات إضراب 6 و7 نيسان في مصر.
كيف تحوّل مقدم برامج تلفزيوني إلى بطل سياسي؟ ولماذا دخلت أسماء نجوم الـ«توك شو» في سجال الاتهام بالخيانة والعمالة؟ هل هو جمهور تعيس يبحث عن بطل؟ أم إنّها الحرية التي كانت في طاقتها القصوى حرية افتراضية خلقت أبطالاً افتراضيين صعد بهم الجمهور إلى مصاف «محرري عبيد الشاشة، ويحاكمهم الآن بمنطق بعيد عن قانون العرض التلفزيوني؟
شهد الأسبوع الأخير منحى خطيراً في العلاقة الافتراضية. فالنظام استعاد الشكل القديم للسلطة لدى مواجهة الإضراب، ومارس تلك السلطة بشراسة حطمت القشرة الناعمة التي خلقت على سطحها نجوم الحرية التلفزيونية. لقد قرر النظام السياسي استعادة التلفزيون كأداة لفرض هيمنته.
مأزق؟ بالتأكيد. فنجوم الحرية ولأوّل مرة واجهوا الحقيقة الخشنة: تعليمات الأمن غير قابلة للنقاش. ممنوع تناول الإضراب إلا بشكل واحد: إنّه تخريب تمارسه «فئة مندسّة» و«تيارات مغرضة»... وكل ما حدث ليس إلا «مؤامرة على مصر». ضاقت مساحة اللعب أمام أبطال التلفزيون ولم يعد متاحاً إلا اختراع «مجرمين افتراضيين». وهذا ما فعلته منى الشاذلي («العاشرة مساء» على «دريم»)، ومعتز الدمرداش («٩٠ دقيقة» على «المحور»)، وقبلهما عمرو أديب («هنا القاهرة» على «أوربت»).
محمود سعد لم يدخل هذه التجربة الصعبة، فبرنامجه «البيت بيتك» في تلفزيون الحكومة وهامش حريته أضيق. لكنّه دخل التجربة كبطل مضاد. قرأ ليلة ٦ نيسان (أبريل) بيان وزارة الداخلية الذي يحذّر الاستجابة لدعوة الإضراب. طريقته في القراءة ثم تعليقه كانا «خروجاً عن النص» في تلك اللحظة العصيبة، ما جعله في مرمى صحف تصطاد الإعلاميين المعارضين (أو شبه المعارضين). وكان نصيب سعد مقالاً مدبجاً بشتائم، وطلباً بمحاكمته لأنّه من المحرّضين على التخريب، فقط لأنّه قال إنّ «الوزير الذي لا يؤدي عمله يستقيل أو يقال». لم يعرف أحد أنّ التعليمات كانت صارمة هذه المرّة: لا موضوعية في مناقشة الإضراب. ولا مهنية حتى في تقديم الصورة كلّها. لم تكن الحقيقة هي الهدف.
الشعب يعلن الإضراب ضد النظام. ومنطقة المحلّة قلعة صناعة النسيج تشهد تصادم قوات أمن مسلحة بأحدث أجهزة التدمير مع جماهير مشحونة بالغضب. مشهد تلفزيوني من الطراز الأول. ومساحات يستعرض فيها الإعلان سلطته كصانع صورة خارج كتالوغ السلطة. وكان هذا وقت الأبطال. مقدّمو البرامج «أبناء الشعب» وصوته المتصاعد بنجاح. عمرو أديب بجسده الخارج عن مقاييس وسامة نجوم السينما وصلعته التي احتفظ بها علامةً على «شعبية» تأكدت بطريقته في سخريته الخارجة على حدود الأدب التلفزيوني. ومعتز الدمرداش بالغ في الأداء ليبرز شعبيّته أكثر. لعب أدوار «محامي الشيطان» أكثر مما ينبغي فكسب عمرو. صورة عمرو مرسومة بشكل أكثر احترافاً من معتزّ (الأحدث نسبياً) وهو الأقرب إلى «البطولة الشعبية» لمذيع يسخر «باسم الشعب» من الحكومة والحكام (طبعاً في حدود لا تتجاوز الخط الأحمر). وبقيت منى الشاذلي أكثر موضوعية. لا تعتمد السخرية، لكنّها أقرب إلى «محققة» يمنحها الأداء الهادئ صدقيةً خاصة في مواجهة قضايا شائكة، لكنها تحتمل الاختلاف. لكن الإضراب والخروج عن السلطة؟ لم يكن أمام منى إلا موضوع «التخريب» والمخربين. بدا ارتباكها قليلاً. لكن جمهورها لم يرحم. فوراً، بدأت حملة ضدها على الإنترنت. الجمهور لم ينتظر أن تخضع هي للتعليمات ويستقرّ الكلام عن المخربين أكثر منه عن الفساد والغلاء. وهذا هو الهدف من تعليمات أرادت التعتيم على الحدث.وإذا بالرأي العام يكتشف أنّ الحرية افتراضية، وأن تحمّل الدولة للنقد كان رصيداً ليوم مثل هذا، ستحتاج فيه إلى إعلان الهيمنة لتحكم السيطرة على الموقف. وقد تحقق الهدف من تلك اللعبة الكبرى. وربما كان الثمن حرق أبطال استعراضات الكلام. لكنّها ربما نهاية الإعلام التقليدي، وولادة إعلام جديد يبحث عن حقيقة أخرى. إعلام مواطنين لا يحتاجون إلى أبطال ولا يلعبون بقانون «الهامش المتاح». هذه ربما لحظة اكتشاف.
نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية