إضافة إلى فضائله المتعددة، يخص الشهر الكريم المصريين بواحدة إضافية وهي اختفاء برامج التوك شو؛ حيث يتوقف بعضها ويتوارى البعض الآخر، وراء المسلسلات والحوارات مع الفنانين.
في كل رمضان يجري الانتقال السلمي للسلطة من أهل السياسة إلى أهل الفن في مصر التليفزيونية بسلاسة نتمناها لمصر الواقعية عندما يأذن رب الشهر الكريم.
ولابد من الإشارة أولاً إلى أن استخدام الاسم الإنكليزي 'توك شو' لوصف هذه البرامج فيه الكثير من التجاوز، وربما من الأنسب تسميتها 'سهراية' أو 'ونسة' حيث لا يتم فيها الالتزام بمواصفات التوك شو التي تقوم أساسا على مذيع يحاور طرفي خلاف في قضية معينة، أو محقق يستخلص الاعترافات من مصدر معلومات مهم، وفي الحالتين لابد من الحياد الحقيقي أو المدعى، وهي عمل مكمل للتغطية الإخبارية، بينما تتخذ 'السهرايات' المصرية صيغة السهرة اليومية في قناة منوعات، فيها تغطيات المراسلين وشكاوى المواطنين بخصوص الأعمال الخدمية، واستعطاف فاعلي الخير لرعاية المحتاجين من الأيتام والمرضى الفقراء واستعطاف الحكومة لعلاج الأدباء والفنانين المرضى على نفقة الدولة وحوارات ضد الحكومة مع الأصحاء من الفنانين والأدباء.
جلسات فضفضة تمتد بالساعات، يتقمص فيها المذيع عدة وظائف تختلف حسب جنس مقدم البرنامج.
يمارس المحاور الذكر دور زعيم المعارضة عندما يتعلق الأمر بسياسات الحكومة، ودور رئيس الحكومة عندما يتعلق الأمر بتقصير في وزارة ما، ولا بأس من دور المفكر من خلال المقدمات الطويلة التي تتضمن رأيه مع أو ضد، كما يتقاطع مع ضابط المباحث ووكيل النيابة من خلال العنف في انتزاع المعلومات من الضيوف الأدنى مثل المتهمين في جرائم القتل والسرقة.
وتتقاطع مقدمة البرامج الأنثى مع الذكر في وظائف الزعامة وقيادة الحكومة والفكر، لكنها برقة الأنثى تتخلى عن دور المحقق والمسؤول التنفيذي الكبير لصالح دور سيدة الصالون.
ولا ينفصل الأداء المصري الفضفاض عن الحالة المصرية العامة في الفهلوة لدى شعب أفسده الإطراء والثقة بالنفس وتدني العائد المادي للعمل، حتى فقد ثقافة الإتقان، وصار من النادر أن تجد من يحسن عملاً واحداً ويقنع بالالتزام به، بل يفتي الجميع في كل شيء إلا تخصصه الأصلي.
وقد صار لهذه الطريقة جاذبية أعلى من جاذبية برامج الفضائيات العربية التي تلتزم بالقواعد المهنية الصارمة؛ لأن المشاهد المقيد بألف قيد، لا يحتمل قيد المهنية الذي تلتزم به فضائيات مثل الجزيرة والعربية، مفضلاً مساحات العشم والمجاملة والتنكيت والتأني في الكلام كما في سهرة منزلية.
وإذا كانت السهرات تتشابه؛ فإن سهرة واحدة منها تتميز بأن من تقدمها هي منى الشاذلي.
وهذا ليس إطراء لها ولا انتقاصا من مقدمي السهرايات الأخرى؛ لأننا عندما نقول منى الشاذلي نعني شخصا وظرفا تاريخياً، بل إن الظرف التاريخي يسبق الشخص في هذه الحالة من النجومية.
لم تحظ برامج منى الشاذلي السابقة باهتمام ولم تلفت نظر الكثير من المشاهدين، كما لم تحظ البرامج الأخرى التي سبقت 'العاشرة مساء' بمثل نسبة مشاهدته.
الجديد في هذا البرنامج أنه ولد في ظرف بدأت تتشكل فيه ملامح فئة من أرباب الثراء مع طبقة وسطى قوامها البيزنس وعودة عدد كبير من المهنيين والتكنوقراط من الخليج، بعد أن دمر تدني المرتبات في مصر أبناء هذه الطبقة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ومع بدايات الألفية الثالثة انبعثت هذه الطبقة مجدداً بأشواقها وحنينها إلى الماضي، وبدأت تبحث عن أشخاص وأشياء وسلوكيات تشبع هذه الأشواق؛ فكانت العودة إلى القراءة، لكن الطبقة الوليدة لم تزل لينة العظام، ولم تتمكن من التعامل إلا مع الكتب 'الأكثر مبيعًا' من الروايات والمقالات السياسية، كما عاد الحنين إلى 'العزبة' والمزرعة منتجعاً أكثر بريقاً من الشاليهات والفيلات الشاطئية.
وكان لابد من الحنين إلى نموذج فتاة الطبقة الوسطى: الجميلة، المثقفة، المناضلة، والمحتشمة. وكانت منى الشاذلي هي هذه الفتاة.
ما ترتديه منى الشاذلي عنصر أساسي في معادلة منى، ولذلك فهي الوحيدة من بين المذيعات التي تحظى بلعبة على الإنترنت اسمها 'تلبيس منى الشاذلي' مثلها مثل نجمات ونجوم السينما العالمية. وهناك الكثير من التساؤلات عن ملابسها الغالية التي لا تتكرر على الرغم من ظهورها خمس ليال في الأسبوع. ولكنها مع ذلك تدور حول التايور الذي يجسد صورة امرأة الطبقة الوسطى الشابة، وللدهشة فإن جميع جواكتها ضيقة الأكمام تضخم ذراعها من الكوع إلى الكتف، وتبرز عفوية جسد الطبقة الوسطى الذي يبدو معطى طبيعياً، بلا افتعال تنحيفي كالجسد الأرستقراطي.
وبقليل من المصادفة وكثير من القصدية ترتبط منى الشاذلي أيضا بالصورة الاجتماعية لفتاة الطبقة الوسطى؛ حيث يمثل وجهها على الشاشة خلطة مدهشة من أشهى وجهين مثلا دور ابنة الطبقة الوسطى: سعاد حسني وميرفت أمين.
أكبر مواهب صورة منى الشاذلي تتجلى في غمازتي سعاد وعينين عطوفتين يتباين بياضهما مع سوادهما مثل عيون النجمتين، تحت رموش طويلة، توحي مع كل تسبيلة بأنها يمكن أن تتعقد فلا تعود تنفصل أو تدع العين تتفتح مرة أخرى، وهي تفعل ذلك في حالتين: عندما تستمع وعندما تتكلم!
ومثل هذه الرموش ليست صعبة على الماكير، لكنها شديدة البأس على المشاهد الذي يأمل بالتركيز فيما يقال، وهو يعلم أنها تخاطبه أكثر مما تخاطب الضيوف.
من حيث التكوين والأداء السياسي الثقافي تشبه منى الشاذلي فتاة الطبقة الوسطى، بالقدر نفسه الذي تشبه فيه الطبقة الوسطى الحالية مثيلتها في جيلي الأجداد والآباء من أربعينيات إلى سبعينيات القرن العشرين.
سياسياً منى ليست في ثقافة لطيفة الزيات أو رضوى عاشور، ولم تنزل المظاهرات ويحملها الشباب على أعناقهم كما حملوا لطيفة في انتفاضة 1946، لكنها حاولت ـ في بدايات البرنامج ـ أن تقوم بالدور النضالي أمام الكاميرا، وحملها الضيوف على أعناقهم؛ حيث تتلقى على الهواء مباشرة الإطراء على ذكائها وجمالها وجاذبية سهرتها، سواء من ضيوف الاستوديو أوالمتصلين تليفونياً، وهو ملمح آخر من ملامح التناقض مع أصول المهنية والمسافة المفترضة بين المذيع والضيف في الحوار التليفزيوني.
أما عن العلاقة باللغة؛ فيمكننا ملاحظة كيف تتمدد عبارتها كلما اتسعت الشهرة.
مع الوقت بدأت مقدمات منى تتحول إلى خطب قبل أن تشرع في طرح الأسئلة الطويلة الملتفة، بحصيلة من اللغة محدودة، فيها من تلقائية وجاذبية لغة الأطفال، وفيها اللعثمة والأخطاء اللغوية المحببة التي تنتزع الابتسام والإعجاب عندما تنطق امرأة أجنبية لغتنا وتقع في العيب دون أن تدري؛ فنراها تتوجه إلى محدثها بالرغبة في 'تطارح المشكلة' أو توشك على اكتشاف وظيفة جديدة للوطن، عندما تتحدث عن الوحدة الوطنية فتقول إن الدين لله والوطن للجما... ثم تتدارك تلوي عنق الألف ليعود ياء وتكمل الكلمة الصحيحة فيعود الوطن كما كان في شعار ثورة 1919 'للجميع'.
تكثر منى من ألفاظ الشك مثل قد وربما، كما تكثر من المبني للمجهول؛ الفعل المحبوب من الذين لا يريدون تحمل نتائج أقوالهم؛ فيبحثون عن خط رجعة؛ فتخرج جملها على هذا النحو: 'ربما يقال..' أو 'قد يُظن أن..' وغير ذلك من تعبيرات تقف فيها على الحد الفاصل بين طرفين من مشاهديها لكل طرف منهما جاذبيته الخاصة: الجمهور والسلطة.
وهذا الوقوف على الأعراف يكون ممكناً في القضايا الفرعية مثل تلوث الماء والغذاء والمواجهة بين وزير التعليم والمعلمين والإضرابات المطلبية الصغيرة، لكنها تحسم لصالح الطرف الأقوى في المحكات الكبرى كما يتجلى في تغطية الدعوات إلى الإضرابات السياسية العامة، وكما تجلى في تغطية عودة الدكتور محمد البرادعي إلى مصر والحوار معه الذي اتسم بالاستخفاف برؤاه وأحلامه.
وقد امتلأت الإنترنت باحتجاجات الشباب ضد زعيمة الحركة التليفزيونية بعد موقفها من البرادعي بالذات، ويمكن أن نستشعر في هذه الاحتجاجات إحساس الشباب بالخديعة في الزعيمة، ناسين حدود حرية التعبير الممكنة في القناة، والأهم أن الشباب الذين يتعرفون على الطبقة الوسطى للمرة الأولى، لا يعرفون طبيعتها في كل زمان ومكان، حيث تختلط بذور التغيير مع حشائش القلق والانتهازيه
الكاتب/ عزت القمحاوي جريدة القدس العربي