«أفيون» المصريين .. مني الشاذلي وهي تهاجم وتراوغ ثم تغرس انتقاداتها كالرماح في الصدور..
«أفيون» المصريين
المصري اليوم
بقلم د.سعيد اللاوندى ١٨/٦/٢٠٠٨
.. اعتدنا أن نقرأ كلمة «أفيون» مقرونة بالدين، خصوصًا في فكر ماركس والماركسيين، فهم القائلون: الدين أفيون الشعوب! والمعني هو أن القادة والحكام قد استغلوا مسألة الدين أبشع استغلال، ودفعوا بالأئمة والوعاظ والمشايخ ليقوموا بتخدير الشعب وصرفه - نهائيا- عن التظاهر أو التجمهر أو الاعتراض لأن ذلك معناه «اعتراض» علي إرادة الله.
ولذلك فالأصوب هو قبول الأمر الواقع، والتلذذ بالمتاح في الحياة ولو كانت عسيرة.. فالحياة الدنيا زائلة وبغيضة، أما حياة الآخرة فهي الأبقي (وطوبي لمن نام ليلته مظلومًا، لا ظالمًا).
ولأن لكل زمان أفيونه الخاص به، والنابع من معطياته وطموحات أبنائه، فأظن - وكثير من الظن ليس بأثم - أن أفيون زماننا في مصر المحروسة - هو التليفزيون وتحديدًا البرامج التي تعرف باسم الـ «توك شو».
نعم هذه البرامج - حصرًا - أصبحت شئنا أم أبينا أفيونًا لكل المصريين الذين يعودون من أعمالهم ليمارسوا - في المساء شيئًا واحدًا، هو القفز علي القنوات الفضائية والأرضية لمشاهدة أشطار من هذا البرنامج أو ذاك وهم في حالة لهاث مُحببة إلي قلوبهم، وعندما تمتلئ عيونهم بما شاهدوه، وتكتظ ذاكرتهم بما سمعوا من أحداث وجرائم وتعليقات يخلدون إلي النوم في حالة حلم لذيذة.
ولا فرق عندي بين هذا اللهاث المبرمج وراء فضائيات هذا الزمان، وبين جلسات الشيشة أو النارجيلة أو حتي السجائر المحشوة بالمغيبات من كل لون وصنف، التي يدمنها أقوام من البشر حتي إذا ما وصلوا إلي حالة (النيرفانا) - مع الاعتذار للزهاد والمتصوفة - التي يستوي فيها الألم واللذة - نجدهم يفرقعون الضحكات من فرط السعادة ويتحدثون حديثًا (فلتانا) لا ضابط له ولا رابط، مليئًا بالمفاجآت والصواعق من واقع الحال في الشارع أو البيت أو في الوزارة وباقي مؤسسات البلد التي تعمها الفوضي وتنخر في عظامها صنوف شتي من الفساد.
وبعد أن ينتهي كل جليس من سرد الحكاوي التي تطفو علي سطح حياته أو معاناته (لا فرق) ويسكب كل شخص ما بداخله من هموم علي هموم الآخر.. ودون أن يسأل أحدهم عما ينبغي عمله بعد ذلك، يأوون جميعًا إلي فراشهم - كل علي طريقته، وهم في حالة تمزج بين الحزن والفرح أو الشقاء والسعادة، أو البؤس والنعيم.
وما يؤكد عدمية الحياة - والوجود من أساسه - أن هذا المشهد الذي أراه جنائزيا - يتكرر بحذافيره كل مساء بين الرفاق علي المقاهي (الشعبية والأرستقراطية) وداخل البيوتات، وعلي جسور الترع في الريف المصري (الحزين) وداخل أفنية المدارس الإعدادية والثانوية، وبين أسوار الجامعات أو في زواياها النائية.. وهو ما يعني أن الناس في بلادي أصبحت حياتهم (أفيوناً) ثم جاءت فضائيات هذا الزمان لتضيف أفيوناً آخر يجعل الناس - كل الناس- أشبه بالبلهاء.
فالمشاهد يطرب كثيراً وتأخذه النشوة إلي أعلي عليين، ويدق قلبه سريعاً مع مني الشاذلي وهي تهاجم وتراوغ ثم تغرس انتقاداتها كالرماح في الصدور.
وفي نهاية هذه المشاهدات عبر الـ«ريموت كنترول»، الذي لا يكف عن القفز بمؤشراته المغناطيسية بين عشرات الفضائيات، يكتشف الجميع أنهم أمام دراما سوداء ليس لها من دون الله كاشفة!
والمؤلم أن هذا الإدمان قد سري بخدره اللذيذ في الأجساد (سريان الماء في العود) فكل المصريين اعتادوا رؤية مني الشاذلي بمكياجها الخفيف وملابسها التي تتوزع في الأغلب بين الأبيض والأسود،
أقول أدمن -الناس في بلادي- هؤلاء الأشخاص الذين يعششون في الرؤوس ويتحدثون طوال الوقت حديثاً أشبه بالبلسم.. أو الترياق.. لكن كم هو شاق علي النفس أن يكتشف مشاهدوهم أن الجراح لا تزال تنزف، والألم يتعمق ويتحول أوراماً.
وللإنصاف: العيب ليس فيهم وإنما في نظام نجح في أن يحوّل أدوات فضحه ومن ثم محاسبته إلي أدوات تخدير كل مهمتها تغييب الوعي!
امير